سوريا بعد الأسد- خطة إيران الحذرة واستياء الشعب السوري المتزايد

المؤلف: رمضان بورصة09.13.2025
سوريا بعد الأسد- خطة إيران الحذرة واستياء الشعب السوري المتزايد

في تطور جيوسياسي مذهل وغير متوقع، شهد الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 سقوطًا مدويًا لنظام بشار الأسد، الأمر الذي أثار دهشة أعتى الخبراء والمحللين المتخصصين في الشأن السوري. هذا الحدث الجلل أوقد شرارة نقاشات مستفيضة وعميقة حول طبيعة الوشائج التي ستربط الجمهورية الإسلامية الإيرانية بسوريا في المستقبل القريب والبعيد.

لقد تسبب سقوط نظام الأسد في ضربة قاصمة لعقيدة "الدفاع المتقدم" التي تشكل حجر الزاوية في السياسة الخارجية الإيرانية، والتي يطلق عليها نظام طهران تسمية "محور المقاومة". وفي أعقاب هذا السقوط المزلزل، أثارت التصريحات الصادرة من كبار المسؤولين في إيران، وعلى رأسهم المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي والقائد العام للحرس الثوري الجنرال حسين، حالة من القلق والانزعاج الشديدين في أروقة دمشق، وذلك لما حملته من إشارات مبطنة حول المرحلة القادمة.

وفي سياق متصل، صرّح وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، بُعيد الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 مباشرة، بأن بعض التصريحات الآتية من طهران تحمل في طياتها نوايا "للتدخل السافر في الشؤون الداخلية السورية، والتحريض المباشر للشعب السوري".

وفي مقابل اللهجة الحادة التي تبناها آية الله خامنئي وقادة الحرس الثوري، والتي أثارت حفيظة القيادة السورية الجديدة في دمشق، عمد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ووزارة الخارجية الإيرانية إلى إرسال رسائل أكثر لطفًا وودًا إلى الحكومة السورية الجديدة، في محاولة لرأب الصدع وتلطيف الأجواء.

هذه التصريحات المتباينة والمتضاربة عكست بجلاء أن طهران لم تتبلور لديها بعد رؤية واضحة المعالم حول كيفية التعاطي والتعامل مع سوريا الجديدة، وأنها تمر بمرحلة عصيبة من الارتباك الشديد وخيبة الأمل العميقة جراء فقدان حليفها الاستراتيجي.

وعلى الجانب الآخر، بادرت روسيا الاتحادية بخطوات حثيثة وسريعة لإقامة قنوات اتصال مباشرة مع أحمد الشرع، الذي تبوأ سدة الحكم في سوريا بعد انهيار نظام البعث، وأوفدت وفدًا روسيًا رفيع المستوى إلى العاصمة دمشق للقاء رئيس الجمهورية السورية الجديد.

ومع ذلك، يبدو جليًا أن إقامة قنوات تواصل بناءة ومثمرة بين إيران والنظام السوري الجديد لن تكون بتلك السهولة واليسر كما هو الحال بالنسبة لموسكو، التي كانت، جنبًا إلى جنب مع طهران، الداعم الرئيسي لنظام بشار الأسد طوال سنوات حكمه.

أول خطوة لإيران

أبدت إيران رغبة جادة في إقامة علاقات متينة مع الحكومة السورية الجديدة، وذلك من خلال تعيين الدبلوماسي الإيراني المخضرم محمد رضا رؤوف شيباني ممثلًا خاصًا لها في سوريا، وذلك بعد شهر واحد من مغادرة بشار الأسد العاصمة دمشق. ويُعتبر شيباني من بين أبرز الدبلوماسيين الإيرانيين وأكثرهم إلمامًا وخبرة بشؤون المنطقة.

استهل شيباني مسيرته المهنية سفيرًا لإيران في لبنان عام 2005، وشغل هذا المنصب الرفيع خلال حرب عام 2006 بين حزب الله وإسرائيل. وفي عام 2011، عُين سفيرًا لإيران في سوريا، حيث خدم في دمشق خلال أحلك وأصعب سنوات الحرب الأهلية السورية.

وإضافة إلى ذلك، تولى شيباني منصب سفير إيران في كل من تونس وليبيا، وشغل أيضًا منصب مساعد وزير الخارجية المسؤول عن شؤون الشرق الأوسط. وقبل تعيينه ممثلًا خاصًا لإيران في سوريا، كان يشغل منصب الممثل الخاص لعباس عراقجي لشؤون غرب آسيا. هذه السيرة الذاتية الغنية والمختصرة تقدم دليلًا قاطعًا على مدى اهتمام طهران بتطوير وتعزيز علاقاتها مع الحكومة السورية الجديدة.

الخطة الإيرانية الثلاثية لسوريا

يمكن القول بكل ثقة إن إيران لا تستعجل إطلاقًا في اتخاذ أي خطوة رسمية لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع دمشق. ففي هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة التي تمر بها سوريا، تعتزم إيران مراقبة التطورات عن كثب، وإجراء مفاوضات مكثفة مع الدول التي تربطها علاقات طيبة وودية مع الحكومة السورية الجديدة، مثل تركيا وقطر، وذلك بغية تحديد أفضل السبل للتعامل مع دمشق. وتشتمل السياسة الإيرانية الثلاثية تجاه سوريا على المراحل التالية:

  • المرحلة الأولى: المراقبة والمفاوضات

في هذه المرحلة، ستواصل إيران مراقبة التطورات في سوريا عن كثب، وستجري مشاورات معمقة ومستمرة مع الدول المؤثرة في المنطقة. وفي هذا السياق، التقى محمد رضا رؤوف شيباني، في العاصمة الروسية موسكو، مع الممثل الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونائب وزير الخارجية الروسي لمناقشة آخر المستجدات والتطورات في سوريا.

كذلك، سيبقى شيباني على اتصال وثيق ومستمر مع وزارتي الخارجية التركية والقطرية لمناقشة التطورات السورية وتبادل وجهات النظر حولها.

  • المرحلة الثانية: الاتصالات غير المباشرة

بعد انتهاء مرحلة المراقبة والمفاوضات، ستنتقل إيران إلى مرحلة الاتصالات غير المباشرة مع دمشق عبر وسطاء موثوقين. وهناك دولتان مرشحتان بقوة للعب دور الوسيط النزيه بين إيران وسوريا، وهما قطر وتركيا.

قد تختار إيران وسوريا إحدى هاتين الدولتين، أو ربما تستخدم كلتيهما في قضايا مختلفة لضمان التواصل الفعال وغير المباشر بينهما.

إن نجاح هذه المرحلة سيكون بمثابة المفتاح السحري للانتقال السلس إلى المرحلة الثالثة، حيث ستُبحث قضايا رئيسية وحساسة مثل تحصيل إيران ديونها المستحقة على سوريا، ومراجعة شاملة للاتفاقيات الاقتصادية والثنائية التي تم توقيعها خلال فترة حكم بشار الأسد، وذلك لتحديد أي منها سيستمر العمل به وأي منها سيُلغى.

  • المرحلة الثالثة: اللقاءات الدبلوماسية المباشرة

في هذه المرحلة المتقدمة، سيُعقد اجتماع رفيع المستوى بين وزيري الخارجية الإيراني والسوري في دولة ثالثة محايدة، مما سيمهد الطريق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين تدريجيًا، بدءًا من تعيين قائم بالأعمال كخطوة أولى نحو تطبيع العلاقات.

ومع ذلك، هناك عوامل عديدة قد تؤدي إلى إبطاء وتيرة هذا المسار، وتتمثل في الأحداث الدامية والمأساوية التي شهدتها سوريا بين عامي 2011 و2024، والمرحلة الانتقالية المعقدة التي تعيشها سوريا، والصعوبات الجمة التي تواجهها الحكومة الجديدة، والتحديات الكبيرة التي تواجه إيران نفسها، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.

كل هذه العوامل مجتمعة قد تؤثر سلبًا وتؤدي إلى تقدم هذه العملية ببطء وتأنٍّ، ولكن من الواضح والجليّ أن إيران تسعى جاهدة لاستعادة نفوذها ومكانتها في سوريا وفقًا لخطة تدريجية ومدروسة بعناية فائقة.

الموقف السوري

لم يغلق الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني الباب تمامًا أمام إيران فيما يتعلق بإعادة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها. فقد صرّح وزير الخارجية قائلًا: "نهدف إلى إعادة بناء وترميم العلاقات مع كل من روسيا وإيران، وقد تلقينا بالفعل رسائل إيجابية ومشجعة بهذا الشأن".

أما الرئيس السوري أحمد الشرع، فقد أدلى بأول تصريح له بشأن إيران بعد ثلاثة أسابيع من سقوط نظام بشار الأسد، قائلًا بلهجة حذرة: "نريد إقامة علاقات متوازنة وعادلة مع جميع الأطراف. وعلى الرغم من الجراح والآلام التي تسببوا بها، فقد قمنا بواجبنا والتزاماتنا تجاه السفارة الإيرانية في سوريا. كنا نتوقع منهم تصريحات إيجابية وبناءة، وكان الأجدر بهم أن يقفوا صفًا واحدًا إلى جانب الشعب السوري المظلوم".

وهكذا، يتضح أن الرجلين لم يستبعدا بشكل قاطع إعادة العلاقات مع إيران، إلا أنهما شددا بشكل خاص على أهمية "العلاقات المتوازنة" التي تراعي مصالح الشعب السوري وتطلعاته المشروعة.

الغضب الشعبي تجاه إيران

خلال زيارتي الأخيرة إلى دمشق بعد أسبوعين من سقوط نظام الأسد، التقيت بعدد كبير من الشخصيات السورية المرموقة، بدءًا من المسؤولين الحكوميين وصولًا إلى المواطنين العاديين، وناقشنا معهم مستقبل سوريا بعد هذه المرحلة المفصلية.

كشفت هذه اللقاءات النقاب عن حقيقة مفادها أن السوريين يحملون قدرًا أكبر من الغضب والاستياء تجاه إيران مقارنة بروسيا. وبالتالي، فإن تهدئة هذا الغضب الشعبي المتأجج والحصول على قبول واسع للعلاقات الدبلوماسية مع إيران قد يستغرق وقتًا طويلًا وجهودًا مضنية.

وفي هذا السياق، أكد الصحفي السوري حمزة خضر أن الحكومة السورية الجديدة لديها تحفظات جدية بشأن إقامة علاقات وثيقة مع إيران، وعزا ذلك إلى دعم إيران المطلق واللامحدود لبشار الأسد طوال فترة حكمه، وسعيها الدؤوب لنشر مشاريعها الخاصة وأجنداتها الخفية داخل سوريا. وأشار إلى أن إيران كانت تسعى جاهدة لتحويل سوريا إلى مدينة أو ولاية تابعة لها، مما يجعل دعمها للأسد مختلفًا جوهريًا عن الدعم الذي قدمته روسيا.

وأضاف خضر أن هذا لا يعني بالضرورة انعدام أي علاقات بين سوريا وإيران في المستقبل، لكنه يعتقد جازمًا أن العلاقات بين البلدين ستكون مماثلة لعلاقات إيران مع تركيا ودول الخليج، أي علاقات محدودة النطاق وغير إستراتيجية كما كانت في عهد الأسد.

مستقبل العلاقات بين البلدين

من جانبه، يرى رئيس مركز الدراسات الإيرانية الدكتور سرحان أفاجان أن إقامة علاقة طبيعية وودية بين إيران وسوريا سيكون أمرًا صعبًا للغاية، نظرًا للتحفظ الشديد الذي تبديه الحكومة السورية الجديدة تجاه إيران.

وأشار أفاجان إلى أن إيران لن تتعجل على الإطلاق في بناء علاقات متينة مع الحكومة الجديدة في دمشق، بل ستأخذ وقتها الكافي في متابعة التطورات وتقييم الأوضاع قبل اتخاذ أي خطوات ملموسة.

أما الصحفي السوري خالد عبده، فهو أيضًا يعتقد جازمًا أن العلاقات بين إيران وسوريا لن تتشكل وتتبلور في المستقبل القريب. وقال في هذا الصدد: "العداوة أو الصداقة بين الدول ليست دائمة وأبدية، ولكن في الوقت الراهن لا يمكن أن تعود العلاقات إلى طبيعتها كما كانت في عهد الأسد". وأضاف أن العلاقات قد تبدأ بشكل محدود عبر الوسطاء أو الأجهزة الاستخباراتية، لكن لا مجال إطلاقًا لعودة العلاقة الوثيقة والمتينة التي كانت قائمة في السابق.

وأكد عبده أن "أي محاولة لإعادة العلاقات مع إيران دون الحصول على موافقة ورضا الشعب السوري ستكون محاولة يائسة ومستحيلة"، مشيرًا إلى أن "الشعب السوري لا يزال يعاني من جراحه العميقة، وأن غضبه واستياءه تجاه إيران لم يهدأ بعد، مما يجعل أي تقارب في المستقبل القريب أمرًا غير مرجّح على الإطلاق".

وإجمالًا، يمكننا القول بثقة إن الحكومة السورية الجديدة لا تضع إعادة العلاقات مع إيران ضمن أولوياتها العاجلة، حيث تركّز جهودها بالكامل على إدارة المرحلة الانتقالية بسلاسة ونجاح، وإعادة إعمار البلاد المدمرة، وضمان تحقيق الأمن والاستقرار بشكل كامل، ورفع العقوبات الدولية المفروضة عليها.

أما إيران، فمن الواضح أنها اتخذت قرارًا استراتيجيًا بعدم التسرع، بل ستراقب التطورات في سوريا عن كثب وبحذر شديد قبل أن تقرر كيفية التعامل مع الحكومة الجديدة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة